أثار تعليق السيد رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي على أن عدم تواجد بعض الأطقم الطبية كان له أثر في زيادة أعداد الوفيات غضبًا واسعًا في صفوف الأطباء، سواء بشكل غير رسمي أو بشكل رسمي من خلال بيان صادر عن نقابة الأطباء تستنكر فيه موقف رئيس الوزراء وانتقاده للأطباء الذي يواجهون الموت يوميًا في الصفوف الأمامية في معركة مصر ضد الكورونا.
وانطلقت موجات من النقد الشديد التي اعتبرت تعليق الدكتور مصطفى مدبولي تقليلًا من مجهودات الأطقم الطبية التي كانت ولا تزال تواجه أخطارًا كبيرة وضغوطات ثقيلة خاصة في ظل حالة من تصاعد أعداد المصابين وزيادة رقعة انتشار الوباء في مصر خاصة في الآونة الأخيرة.
دعنا ـ عزيزي القارئ ـ نتفق في البداية أن لدى كل طبيب مصري مشارك في هذه الملحمة كامل الحق في الانتقاد؛ كما أرى أننا إن أردنا مصر جديدة ومختلفة فنحن بحاجة إلى تقبل موجات النقد، طالما كانت في أطرها القانونية والأخلاقية، بل لابد من تعزيز حالة “الاشتباك السلمي” للمجتمع مع قضاياه الهامة والحيوية.
وأرى أنه من الصحي كذلك ما قام به المستشار نادر سعد، المتحدث باسم رئاسة الوزراء من الرد على التعليقات الناقدة لتصريح السيد رئيس الوزراء، والتي أكد فيها أن ما قصده الدكتور مصطفى مدبولي هو وجود البعض من المتقاعسين ولم يكن يقصد التعميم على جميع الأطباء الذين أشاد بجهودهم.
هذه حالة صحية من النقد “الموضوعي” و”السلمي” و”القانوني” يقابلها رد حكومي “محترف” و”سريع” و”محدد”، وهو شيء يحتاج منا إلى الإشادة من الطرفين، خاصة عدم لجوء الطرف المنتقد إلى منصات إعلامية خارجية، بل كان معارضة راشدة في مقابل حكومة راشدة أيضًا.
ولكن الأمر برمته يلقي بالضوء ـ كما هي الحالة في أزمة الكورونا ـ على وضع المنظومة الصحية المصرية، والتي لا يمكننا أن نغفل أن ميزانيتها ارتفعت إلى أعلى معدلاتها تقريبًا لتصل ما يقارب 12% من موازنة 2020-2021 بحسب تصريحات وزير المالية، ولكن لا يزال الحديث عن “آثار ملموسة” لذلك على حياة المواطن من جهة، ومن جهة أخرى لا يزال حديث نقابة الأطباء وكثير من الأطباء عن “قلة الموارد”، وتتكرر شكاوى عدم توافر الأدوات والمواد اللازمة لتقديم خدمة صحية تليق بالمواطن المصري.
ولكننا بالمثل لا يمكننا تجاوز تصريح السيد مصطفى مدبولي، فلم نعتد من سيادته تصريحات تفتقر إلى أدلة وأرقام، وفي تصريحه الذي أثار غضب الأطباء كان هناك حديث عن حالات تم رصدها من تغيب بعض الأطباء، وهو أمر لابد من الوقوف عنده والتساؤل .. هل من المفيد أن نعمي أعيننا عن “تقاعس البعض” بحجة “قلة الموارد”؟!
وهو ما يجعلنا نحاول الجمع بين “مطالب مشروعة” قديمة ومستمرة للأطباء كانت أزمة الكورونا كاشفة وليست منشأة لها، وبين “تقييم موضوعي” للحكومة عن تقاعس البعض من الأطقم الطبية عن أداء مهامهم.
ومن هنا، فإن الحل الحقيقي للأزمات، مثل أزمة القطاع الصحي في مصر، لا ينبغي أن يكون حلًا “أحادي البعد”، كما هو حالنا في التعامل مع الأزمات، وبالتأكيد لا ينبغي أن نكرر فيه أخطاء الماضي في البحث عن “كحول” أو “كبش فداء” يتحمل المسئولية ليخرج أطراف الأزمة أبرياء من التهمة.
في رأيي، فإن أزمة القطاع الصحي في مصر تحتاج إلى حل “3D” أو ثلاثي الأبعاد:
- البعد الأول ـ المؤسسات التعليمية الطبية: حيث على معاهد وكليات الطب والتمريض مهمة تخريج كادر صحي مؤهل، قادر على التعامل مع مهنة حساسة تتعاطى مع صحة الإنسان، ومتابعة كل ما هو جديد وتطوير أدائه وخدماته للمواطنين.
- البعد الثاني ـ الحكومة: سواء من الشق التنفيذي أو التشريعي أو القانوني، وهي مهمة الوزارات المتعاقبة وكذلك لجان المجالس النيابية المتخصصة في المجال الصحي في “الاشتباك” الحقيقي مع أوضاع الأطقم الطبية وتقديم حلول عملية تضمن كرامة الأطقم الطبية “ماديًا ومعنويًا” من جهة وكذلك تضمن كرامة المواطن في الحصول على خدمة صحية تليق به “من حيث الجودة والسرعة” من الجهة الأخرى.
- البعد الثالث ـ الكادر الصحي: سواء من الأطباء أو التمريض أو الإداريين، والذين هم منوط بهم تقديم الخدمة في صورتها النهائية للمواطن، وهنا لا أتحدث فقط عن الكوادر الصحية بصورة منفردة، ولكن الحديث أيضًا على النقابات الطبية المختلفة، وضرورة أن تكون كيانات وهيئات “مستقلة” تمثل أفرادها وجمعياتها العمومية، حتى تكون قادرة على التعبير عن احتياجات حقيقية للكوادر الصحية، وليست تعبيرًا عن “أجندات” سياسية أو مصالح “حزبية”.
وفي النهاية، رب ضارة نافعة، فربما تدفعنا تلك الأزمة لكي نسعى نحو تكامل الأبعاد الثلاثة، وتضافر جهود جميع الأطراف من أجل صحة أفضل لجميع المصريين.