مصر من “دولة الرئيس” إلى “دولة العدل”
عصام زيدان
“تمثيلية” .. “إنه ليس مبارك” .. كانت هذه مفردات مصرية فلكلورية صاحبت محاكمة الرئيس المصري السابق حسني مبارك, وعبَّرت عن شريحة من هذا الشعب ما تخيلت يومًا أن يقف مبارك وأركان نظامه من وراء أقفاص حديدية، ينادى عليهم بأسمائهم مجردة دون لقب إلا “المتهم”.
ولكن الشريحة الغالبة صدقت ما رأت، وأيقنت أن عصرًا جديدًا قد بدأ، ليس في مصر فقط, ولكن في المحيط الإقليمي برمته, كتبته الأيدي التي أشعلت ثورة 25 يناير, ذاك عصر نرى فيه ونسمع عن الرئيس السابق .. الرئيس المخلوع .. المتهم .. الذي يقف ليحاكمه شعبه, بعد أن كان ذلك نوع من الإفراط في الخيال, ما يستطيع أحد من الشعوب العربية أن يتصوره أو يعتقد أنه ممكنًا.
وعن مصر, نقول أن عصرًا جديدًا قد بدأ بالفعل وولد من تلك اللحظة، التي دخل فيها “المتهم” في قفص الاتهام، وسمع قاضيه ينادي فيلبي نداءه، دون غطرسة ولا كبرياء، لطالما امتزج بها كلامهم وظهرت ملامحها على قسمات وجوههم.
ماذا كسبت مصر من هذه المحاكمة؟
هذه هو السؤال الأهم في هذه المحاكمة, فتلك الشخوص الماثلة في قفص الاتهام ذاهبة إلى حالها اليوم أو غدًا, وسيحكم عليها التاريخ بما سيحكم به القضاء والشعب المصري, وستبقى بلدنا مصر هي نقطة الارتكاز ومحط الأنظار الذي نتوجه إليه عند كل حدث لنعرف أثره ونتائجه وتداعياته.
وأمام هذا الحدث التاريخي الذي وقف فيه الرئيس السابق أمام القاضي متهمًا، تظهر عدة فوائد للأمة المصرية؛ منها:
أولًا: ترسيخ مبدأ الحكم الرشيد:
فمنذ قيام الثورة وحتى يوم أمس، لم تكن أحد أهم المطالب الحقيقية للثورة قد تحققت, وكانت هناك وعود بتحقيق المحاكمة والقصاص للشهداء, ووقف دون تحقيق هذه الأهداف مبررات عديدة ساقتها السلطات الحاكمة، وتسببت في أجواء من التوتر في الأمة المصرية.
ومجرد مثول أركان النظام السابق أمام القضاء يعني في ذهن كل مصري, وفي المفهوم الثوري أن النظام السابق سقط حقيقة, وأن البلد على مشارف عهد جديد, تكون أولى لبناته تطهير مؤسسات البلاد من أتباع هذا النظام، وتدشين مبدأ الردع أمام من سيأتي خلفًا لهذا النظام.
ومن ثَم؛ فإننا نقول: أن هذا المشهد التاريخي ستخرج من رحمه مصر الجديدة التي تمناها الثوار, ليست فقط بلدًا أسقط نظامًا متهمًا بالفساد والاستبداد وفقط, ولكنه مع ذلك, بلد يضع لبنات الحكم الرشيد قبل أن يقوم حقيقة, ويضع خطوط حمراء أمام من سيأتي في منصب القيادة، مضمونها أن الملتحف بأية قوة مهما بلغت وتعدت وتنوعت دون قوة الشعب، لن تستطيع أن تحميه وتحفظ له حكمه إن ثار الشعب يومًا أو غضب, ومن كان الشعب معه فالقوة كلها في ملكه وحيازته.
ثانيًا: تعزيز دولة العدل وسيادة القانون:
فقد عرفت مصر طيلة العقود السابقة تعزيز “دولة الرئيس” الذي يأمر فيُطاع, ولا يملك أحد أن يرد له قولًا, وفي حينها كان العدل محتجبًا وراء ظلام كثيف من الظلم، الذي لم يكن أحد ضحيته إلا المواطن المصري، الذي لم يجد سندًا في مواجهة باطش أو ذي نفوذ مرهوب.
ومن رحم اللحظة التي جذبت ملايين المصريين، كانت ولادة “دولة العدل” التي لا تفرق بين مواطنيها, وتقتص من المجرم مهما علت رتبته وارتفع منصبه للمجني عليهم مهما تواضعت مراتبهم وانخفض بين الناس وفي وسائل الإعلام ذكرهم.
وتمخضت هذه اللحظة التاريخية عن دولة سيادة القانون, التي لا قصاص فيها إلا بحكم القضاء المصري الذي يشهد الجميع بعدله ونزاهته, والقضاء على دولة البلطجة، التي يسعى فيها القوي بمركزه ومنصبه وماله لأخذ ما يريد، مرتكنًا إلى غياب منطق القانون وراء قوة المال والنفوذ.
ثالثًا: تعزيز ودعم الارتباط بين الثوار والمجلس العسكري:
فمنذ ثورة 25 يناير تقوم مصر على شقين اثنين, في مقدمتهما الثوار, وثانيهما المجلس العسكري, والذي يعد الحاكم الفعلي للبلاد منذ سقوط النظام السابق, وقد مرت العلاقة بين الطرفين بفترات متباينة, فمن “الشعب والجيش أيد واحدة” إلى الشعب يريد إسقاط المشير” مرت العلاقة بين الطرفين.
وثمة أكثر من طرف مستفيد حقيقة من توتر العلاقة بين الطرفين, في مقدمتها فلول النظام السابق, التي ترى أن مصلحتها في إجهاض القواسم المشتركة بين المجلس العسكري والثوار؛ ليسهل لها النفاد مجددًا لأريكة الحكم حيث السلطة والنفوذ في البلاد.
ولاشك أن هذه المحاكمة التاريخية ستدعم روابط الثقة بين الطرفين مجددًا, وستقطع الطريق على أصحاب الأهواء والأطماع غير المشروعة في الوقيعة بين الثوار والمجلس العسكري, بل ربما تفسح المجال لمزيد من التعاون بين الطرفين على خريطة واضحة للانتقال بمصر من الحالة الثورية إلى النهضة والتنمية.
رابعًا: البحث عن مستقبل مصر:
فقد انشغلت مصر كثيرًا ومنذ بدء الثورة وحتى لحظة المحاكمة بالماضي, ومحاولة تصفية الحسابات وتحقيق العدالة مع النظام السابق وأعوانه, كخطوة مهمة لا غنى عنها, وقد أًلقي الأمر منذ أمس بين يدي القضاء الذي يثق فيه الشعب المصري؛ وعليه فإن اللحظة باتت مواتية كي ننتقل بالفكر والجهد من “الماضوية” إلى الحاضر والمستقبل الذي تشرئب إليه الأعناق وتتطلع إليه الأفئدة والعقول.
فمصر التي قام الثوار من أجلها بثورتهم الكريمة، لا يكفيها وفقط الأخذ بثأر الشهداء، ولا يغنيها محاكمة الفاسدين والمستبدين, بل تحتاج في اللحظة الراهنة لمن يبدع في رسم مستقبلها، ويقفز بها إلى مكانتها المرموقة إقليميًّا ودوليًّا.
وهذا الشعب الذي حمى الثورة يحتاج إلى أن يحصد ثمار تضحياته وبذله واحتضانه لهذه الثورة.
إن محاكمة مبارك وأركان نظامه محاكمة لعهد بائد، وفتح لباب التفكير في مستقبل البلاد وحاضرها، هذا هو مكسب مصر الكبير من المحاكمة.