النموذج التنموي وحماية الأمن القومي
بقلم/ د. عمرو نبيل - نائب رئيس الحزب للشؤون السياسية
يواجه كل من الأمن القومي المصري والأمن القومي العربي، خلال الفترة الحالية، العديد من التهديدات المصيرية بالغة الخطورة، وذلك في ظل تحديات تنموية غير مسبوقة بسبب التداعيات التي أحدثتها جائحة فيروس كوفيد 19.
وترتبط القدرة على مواجهة تهديدات الأمن القومي بكيفية ومدى قوة إدراك طبيعة هذه التهديدات وأبعادها المختلفة، كما تعتمد على عمق فهم أبعاد ونطاق التهديدات وتأثيرها على كافة المستويات، فلتهديدات الأمن القومي أبعاد متعددة منها ما يتعلق بالبيئة الخارجية وما يتعلق بالبيئة الداخلية، وأبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وتكنولوجية وغيرها، فضلاً عن تعدد دوائر التأثير على الأمن القومي من دوائر داخلية ومباشرة وإقليمية وحزام إقليمي ودوائر عالمية.
وتفرض علينا قوة وخطورة التهديدات الحالية التي تواجه أمننا القومي عدم ادخار أي جهد في سبيل تعميق الإدراك والوعي بطبيعة هذه التحديات وبحث سبل مواجهتها، وذلك في إطار من التعاون والتكامل الوطني.
وفي هذا الإطار، وبالنظر إلى الساحة العالمية نجد تحولاً خطيراً في علاقة الولايات المتحدة الأمريكية بالصين ما زال في طور التشكل ولم تتضح معالمه بعد، ولكنه أدى إلى تحول الاهتمام الاستراتيجي الأمريكي باتجاه الشرق الأقصى، مما أحدث فراغاً استراتيجياً في منطقة الشرق الأوسط سارعت روسيا لاستغلاله، وعلى الصعيد الإقليمي فقد رأت القوى الإقليمية “إسرائيل” وإيران وتركيا في ثورات الربيع العربي فرصة تاريخية لإشباع أطماعها التوسعية في المنطقة العربية، فضلاً عن محاولة إثيوبيا التعدي على حقوق مصر والسودان في مياه النيل.
وكانت هناك محطات أساسية بلورت هذه التهديدات الوجودية للمنطقة العربية، والتي بدأت بقيام “إسرائيل” بمشروعها من الفرات إلى النيل ثم “الثورة الإيرانية” بمشروعها لتصدير الثورة الشيعية فـ “حرب الخليج” التي أدت إلى دخول القوات الأجنبية إلى المنطقة عقب فشل جامعة الدول العربية، وأخيراً وصول حزب “العدالة والتنمية” للحكم في تركيا، الذي بعدما فشل في الانضمام للاتحاد الأوروبي بدأ في استغلال تيار الإسلام السياسي وحالياً التيار القومي التركي أيضاً في مشروع استعادة النفوذ العثماني بالمنطقة العربية.
ولا تتحرك هذه القوى الإقليمية بمعزل عن القوى العالمية بل تسعى لتقديم نفسها كشرطي حامي لمصالح القوى العالمية من الصين لروسيا لأمريكا بالمنطقة، فالتقدم التركي مؤخراً في ليبيا إنما تم بضوء أخضر أمريكي لمواجهة روسيا هناك، كما أن لوبي الإسلام السياسي بأمريكا كان قد قدم نفسه، عقب أحداث 11 سبتمبر، باعتباره الحل الأمثل لمواجهة الجماعات الإرهابية بادعائه تمثيل “الإسلام المعتدل”.
وبرغم كل هذه التهديدات الخارجية فإن التهديد الأساسي تمثل في الانقسام العربي تجاه تلك التهديدات بدلاً من الاصطفاف لمواجهتها، خاصة مع تمكن القوى الإقليمية ذات الأطماع في المنطقة العربية من عقد تحالفات مع أنظمة وتيارات عربية وظفتها لخدمة أجندتها الإقليمية على حساب المصالح العربية.
وفي أعقاب ثورة 25 يناير المجيدة، مثّل وصول تيار الإسلام السياسي للحكم في مصر، فرصة كبرى لمساعي المشروع التركي لبسط نفوذه في المنطقة، ألا أن ثورة الشعب المصري على نظام الإخوان في 30 يونيه صححت المسار الوطني، وكانت بمثابة أول تصدي عربي للمشاريع الإقليمية ذات الأطماع التوسعية بالمنطقة، تصدي شعب عظيم بحماية جيش قوي، تصدي كان له صدى في المنطقة، حيث أدى بعد ذلك لخسائر متتالية للتيار الإسلامي في العديد من الدول العربية.
وهو الأمر الذي جعل هذه القوى الإقليمية تسعى بكل قوة لعرقلة المسار التنموي الذي بدأته مصر عقب 30 يونيه لتلبية تطلعات شعبها التي ثار من أجلها، وذلك باستخدام الإرهاب في سيناء والصحراء الغربية وشن حرب شائعات وحملات إعلامية، غير أن الدولة المصرية أكدت إصرارها على المضي قدماً في تحقيق التنمية ومواجهة الإرهاب في ذات الوقت داخلياً، وخارجياً نجحت في بناء وتعزيز تحالفات إقليمية وشراكات اقتصادية مع العديد من دول المنطقة العربية والقارة الإفريقية ودول الجوار الأوروبية.
ورغم تمسك مصر على الصعيد الخارجي بالمسار السياسي والدبلوماسي واقتصار المواجهات المسلحة على التهديدات الداخلية ألا أنها مؤخراً ونظراً لاقتراب التهديدات الأمنية من دائرة الأمن القومي المباشر لمصر في ليبيا أعلنت عن إمكانية تحركها عسكرياً خارجياً إذا تطلب الأمر، وذلك لحماية الأمن القومي المصري الذي هو جزء لا يتجزأ من الأمن القومي العربي، وذلك في حال فشل المساعي السياسية والدبلوماسية التي بذلت على مدار سنوات، في رسالة قوية مباشرة لتركيا وغير مباشرة لإثيوبيا.
ولقد أعاد إعلان مصر استعداد جيشها القوي الرشيد للتحرك خارجياً لحماية الأمن القومي العربي للأذهان قيادة مصر للأمة العربية، وكيف كانت مصر قادرة على توحيد الأمة العربية، خاصة وأن مشاريع القوى الإقليمية وأطماعها التوسعية بالمنطقة قد نشأت وترعرعت في ظل غياب مصر وانكفائها داخلياً، حيث استغلت الفراغ الاستراتيجي الناتج عن عدم وجود نموذج تنموي للدول العربية لمرحلة ما بعد الاستعمار، والذي مثّل الثغرة التي نفذت من خلالها هذه المشاريع للمنطقة العربية، فبعدما قادت مصر التحرر الوطني من الاستعمار في الماضي جاءت هذه المشاريع الإقليمية لتستنزف مقدرات الأوطان العربية وتترك شعوبها في أوضاع معيشية صعبة واقتتال أهلي وطائفي، من العراق لسوريا لليمن لليبيا للبنان.
وهنا يتضح لنا أن حماية الأمن القومي المصري، والأمن القومي العربي من التهديدات الحالية إنما يتمثل في بلورة نموذج تنموي لدول المنطقة العربية، خاصة ونحن في وقت أعادت فيه تداعيات جائحة فيروس كوفيد 19 محورية وأهمية دور الدولة الوطنية في التنمية.
إن الواجب الوطني الآن يتطلب من القوى الوطنية، بعد الحراك التاريخي الذي أيقظ الوطنية المصرية في ثورتي 25 يناير و30 يونيه، استكمال المسيرة الوطنية بالاصطفاف لبلورة مشروع وطني يقدم للمنطقة نموذجاً تنموياً، نموذجاً يعيد اكتشاف عمق شخصية مصر وعبقرية مكان حمدان، ويبني على تجربة محمد علي في إعادة بناء الدولة الحديثة، ويعيد إحياء روح مصطفى كامل الوطنية، ويستلهم تجربة طلعت حرب الاقتصادية، وقوة خطاب ناصر لكن مع دهاء السادات، ويجدد قوة مصر الناعمة بوسطية الأزهر ووطنية الكنيسة وأصالة الثقافة والفنون، نموذجاً منفتح على روح العصر التكنولوجية، ويتعلم من أفضل التجارب الغربية والآسيوية.
نموذجاً يعي أصحابه.. بقدر ما يعي اعدائه.. أنه.. عندما “تحيا مصر”.. “تحيا الأمة العربية”