جائزة اليانصيب والألماس الدموي
ذكرت هيئة الإذاعة البريطانية البي بي سي عام ٢٠٠٠م أنه أثناء الاقتراع العام علي جائزة اليانصيب في زيمبابوي، تفاجئ القائم علي تنظيم المسابقة بل ولم يصدق عينيه حين وجد أن الاسم المدون علي الورقة الرابحة هو “موغابي”!!! إنه رئيس البلاد “روبرت غابريل موغابي”!!! وكانت الجائزة قيمتها آن ذاك ما يعادل ٢٦٠٠ دولار وكان الراتب الشهري لمواطن بسيط قرابة ٢٦ دولار أي أن الجائزة كانت تساوي ١٠٠ ضعف دخل مواطن بسيط [1]
لك أن تتخيل حال دولة مثل زيمبابوي رئيسها يزاحم المواطنين في مسابقات اليانصيب، تلك الدولة في عام 2009 قررت تعليق التعامل بالدولار المحلي نتيجة للتضخم الجنوني، واستبداله بالدولار الأميركي أو الراند الجنوب إفريقي، بعدما وصل سعر السنت الأميركي الواحد إلى 500 مليار دولار زيمبابوي عام 2008!!![2] ، دولة تفشي فيها وباء الكوليرا في جميع أنحاء البلاد عام ٢٠٠٨، دولة ربع سكانها مرضى بفيروس نقص المناعة البشرية “الإيدز” مما ساهم في خفض متوسط عمر الفرد من ٦١ عامًا إلي ٣٣ عامًا كما أوردت ذلك منظمة اليونيسيف
فأين الدولة وأين مؤسساتها وأين أنظمتها؟ إن كثير من المنح الدولية تذهب إلي زيمبابوي لعلاج مرضى الإيدز، ولكن لا تكمن المشكلة في ارتفاع ثمن العلاج فقط ولكن المشكلة تكمن في طريقة العلاج، فيجب إعطاء أدوية الإيدز ضمن نظام جرعات معقد وعلي امتداد مدة زمنية طويلة والفشل في اتباع ذلك النظام قد يؤدي إلي مقاومة الفيروس للأدوية المتوفرة، لذا يقتضي العلاج الفعال إلي ثقافة صحية متقدمة، وبنية تحتية صحية قوية، ومعرفة دقيقة بالأطوار الوبائية للمرض[3]. لذلك قد تتوفر الموارد المالية عن طريق المنح ولكن يبقى الضعف المؤسسي هو السبب الرئيسي في انتشار المرض بهذه الصورة المكثفة. ومن المثير للسخرية أن منظمة الصحة العالمية قد اختارت مؤخرًا الرئيس موغابي سفيرًا للنوايا الحسنة فيما يتعلق بالأمراض غير المعدية في أفريقيا، مما أثار كثير من الانتقادات الدولية لهذا الاختيار[4] ولقد تم التراجع عنه بعد أيام
إن الضعف المؤسسي هو حال الكثير من دول أفريقيا جنوب الصحراء، فبعد انتهاء مرحلة الاستعمار الأوروبي وبداية الاستقلال، كان الشغل الشاغل للنخب التي سيطرت علي السلطة في تلك البلاد هو كيفية احتفاظهم بالحكم والسلطة قبل أي شئ (الرئيس موغابي يحكم منذ عام ١٩٨٠ وعمره الآن ٩٣ عام) وبالتالي لم يتم الاهتمام بالمركزية السياسية وبناء قوة الدولة وقوة قدرتها المؤسسية والإدارية، تلك القدرة المؤسسية التي تعمل علي تصميم السياسات وسن الأنظمة والقوانين ووضعها موضع التنفيذ في مختلف المجالات الصحية والتعليمية والاقتصادية، إضافة إلي ذلك فإن المركزية السياسية تعمل علي توفر ولو الحد الأدنى من النظام والقانون[5] اللازمان لبناء اقتصاد قوي.
هذا الضعف المؤسسي تكرر بصورة مختلفة في دولة سيراليون في غرب أفريقيا، والتي يمتلئ تاريخها الحديث بعد استقلالها عام ١٩٦١ بكثرة الحروب الأهلية والإنقلابات، فأيضًا كان الاهتمام الغالب بعد الاستقلال هو الحفاظ علي السلطة السياسية وتم إهمال بناء قوة الدولة المؤسسية والإدارية، حتي وصل تدهور الدولة في عهد جوزيف مومو ١٩٨٥-١٩٩٢ إلي عدم القدرة علي دفع الرواتب، وانهارت الطرق وتفككت المدارس، وتوقف البث التلفزيوني عام ١٩٨٧ عندما قام وزير الإعلام ببيع جهاز الإرسال التلفزيوني!!! وانهارت بالطبع الحكومة المركزية، وكان قد تم إضعاف الجيش الوطني قبل ذلك من أجل الحفاظ علي السلطة
وكثرت الغارات الخارجية وكثر المتمردون في الداخل وتدفقت لهم الأسلحة من الخارج، وتم تجنيد الأطفال في تلك الصراعات، ونتيجة للفقر والاستغلال الاقتصادي من قبل النخب المسيطرة كثرت الصراعات المسلحة التي تسعى للسيطرة علي مناجم الألماس ليتم إستخراجة وتهريبه خارج البلاد للشركات العالمية حتى أن ذلك الألماس عرف بالألماس الدموي لكثرة الدماء التى أريقت من أجل الحصول عليه، ومع نهاية الحرب الأهلية عام ٢٠٠١ لقي مايزيد عن ٨٠،٠٠٠ شخص حتفهم وتم تدمير البلاد كليًا وانهار الاقتصاد والطرق والمباني. إن إنصراف حكام ونخب سيراليون إلي مصالحهم الذاتية واهمال بناء دولتهم ومؤسساتها وقدرتها الإدارية ادى في نهاية الأمر إلي انهيار الدولة بالكامل
وبالطبع إشكالية ضعف القدرة الإدارية للدولة لا تخص فقط الدول الفقيرة بأفريقيا بل إن كثير من الدول التي أخذت خطوات جدية نحو التنمية تعاني أيضًا من هذا الضعف ولو بنسب متفاوتة، علي سبيل المثال الهند التي تعد من أقوى عشر اقتصادات علي مستوى العالم، فإن غياب السيطرة الإدارية علي حضور وانصراف الممرضات في مستشفى بأحد المناطق النائية أدي إلي تعطيل مشروع علاجي بملايين الدولارات لأنه ببساطة لا يوجد من يطبقه في المستشفيات، وفي نطاق آخر هناك بطئ في إنجاز مشاريع البنية التحتية في مختلف المناطق النائية بالهند، في النهاية فإن ضعف القوة الإدارية للدولة أدي إلي “أن يكون ٢٨٪ من سكان الهند يعيشون تحت خط الفقر” [6] رغم قوة اقتصادها في المجمل
[1] http://news.bbc.co.uk/2/hi/africa/621895.stm
[2] https://www.skynewsarabia.com/web/article/752120/1-دولار–35-مليون-مليار-دولار-زيمبابوي
[3] State Building, Governance and World Order
[4] https://arabic.rt.com/world/905842-روبرت-موغابي-سفيرا-للنوايا-الحسنة/
[5] Why Nations Fail, Robinson & Acemoglu
[6] http://nama-center.com/ActivitieDatials.aspx?id=179#a
القدرة الإدارية للدولة تعد من أهم عوامل نجاح التنمية والإزدهار وأحد المفاتيح التي نستطيع أن نقرأ ونفهم بها التجارب الدولية المختلفة، فلا توجد دولة في العالم استطاعات النهوض من مستنقعات التخلف والفقر بدون قدرة إدارية ومؤسسية تمكن الدولة من القيام بتنفيذ البرامج والمشاريع التنموية المختلفة، ويبقى العامل المشترك الذي لا خلاف عليه بين كل الدول المتقدمة علي تنوع أنظمتها السياسية وتباينها هو قوة الدولة الإدارية والمؤسسية أو ما يعرف بالمركزية السياسية والإحكام الإداري لإحداث التنمية وحفظ النظام
وحدة الدراسات الاستراتيجية – أمانة السياسات العامة
حزب الاصلاح و النهضة