نحو تمكين المجتمع المدني وإعادة بناء “قوة المجتمع”
بقلم: مؤمن راشد
المتحدث الإعلامي لحزب الإصلاح والنهضة
ارتبطت نشأة الدولة الحديثة بقيام الثورة الفرنسية في 1789، فمنذ ذلك الحين ظهر مفهوم السياسي لـ”الدولة” أو “السلطة”، ونشأت المدارس المختلفة لتفسير مفهوم الدولة الحديثة وأدوارها وعلاقتها بالمحكومين، فظهرت الرأسمالية التي قدست الفرد على الجماعة وكذلك الاشتراكية التي قدست الجماعة على الفرد، وما بينهما من مدارس حاولت التوفيق أو الخروج بفلسفة جديدة، ولكن الكل قد اتفق على أدوار أساسية للدولة.
فقد اتفق الجميع أن للدول أدوارًا أساسية منها: وظيفة الدفاع الخاص والمتمثلة في السلطة الفعلية في المؤسسة العسكرية وتتعلق بسلامة الدولة وأفرادها من العدوان الخارجي، ووظيفة الأمن على المستوى الداخلي بحفظ سلامة الأفراد وممتلكاتهم وأموالهم، ووظيفة العدالة أي العدالة بين الأفراد في وجود قوانين ينص عليها القضاء لتحقيق المساواة.
ولكن تأسيسًا على ما سبق من اختلاف الأولوية هل هي للفرد أم للمجموع ،كانت “السلطة السياسية” في الدولة الاشتراكية هي الوحش الذي لا يقف أمامه شيء، فالسلطة تتحكم في كل شيء، ولها المسئولية على كل احتياجات المواطن، من صحة وتعليم ومرافق وخدمات وغيرها، وكل ذلك قائم على عدالة التوزيع، المهم أن السلطة السياسية هي “القوة”، ما أحدث للدولة أدوارًا أخرى تتلخص في الهيمنة.
وعلى الجانب الآخر أصبحت الدولة الرأسمالية دولة “رجال الأعمال” الذين يملكون بأموالهم وبالتالي نفوذهم تغيير السوق من آنٍ لآخر، والضغط على السلطة السياسية لصالح قوانين تحقق لهم المصلحة والربح والمكسب، إذن هنا كان رجال الأعمال هم “القوة”، ما أحدث للدولة أدوارًا شاءت السلطة السياسية ذلك أم أبت.
وبعد العديد من التجارب الفاشلة للمدرستين ظهرت مدارس أخرى كما ذكرنا حاولت التوفيق بين الرأسمالية والاشتراكية، منها الليبرالية الاجتماعية التي جعلت للسلطة السياسية دورًا في ضبط السوق إلى جانب توفير الحد الأدني من المعشية للمواطن، وكذلك الاشتراكية الديمقراطية التي وضعت مساحة لرجال الأعمال للعمل والتكسب مع وجود هامش كبير للضرائب ، ولا مجال هنا للحديث بإسهام عن التصور الاقتصادي لكل منهما ومحاسنه ومعايبه، المهم أن المدرستين وما تبعهم من اشتقاقات إما إنه تنازل “طوعيًّا” عن جزء من قوته لصالح جهة أخرى، أو “اكتسب” جزءًا من القوة، ما يحدث في النهاية توازنًا يحافظ على “قوة الدولة” وبقائها ما دامت تلك الجهة تحت السيطرة.
إلا أن بعد المواطن والمجتمع ظل غائبًا بين كل تلك المدارس، وقد انحصر دوره في الحصول على دعم الحكومة أو العمل لتحصيل كل احتياجاته، ولهذا في نهاية السبعينيات ظهر مفهوم المجتمع المدني كضرورة لتقليص هيمنة الدولة لصالح المجتمع المدنى، الذي يجب أن يدير بنفسه أموره الذاتية ولا يترك للحكومة إلا القليل، وبدأت العديد من البلاد الأوربية حينها بالاهتمام بهذا القطاع الهام من النشاط الاجتماعي، وما زال هذا المصطلح يتطور ويُرسم له مهام متعددة سنتكلم عنها فيما بعد، ولكن الدعوة بالأساس تقوم على ضرورة بناء “قوة المجتمع” في مقابل “قوة الدولة”.
ونحن في حزب الإصلاح والنهضة كحزب وطني اجتماعي محافظ، وأول من يصنف كحزب اجتماعي في الوطن العربي، نرى أن من أهم القضايا التي نشأ الحزب من أجلها هي: “السعي للوصول إلى السلطة لتمكين المجتمع المدني والتقليل من سيطرة السلطة على المجتمع”، ذلك المجتمع المدني الذي يشمل النقابات، والجمعيات الأهلية والمؤسسات التنموية، ومراكز الشباب والنوادي الرياضية، والمراكز الحقوقية وغيرها من التجمعات الاجتماعية.
وقد يبرز هنا سؤالًا: هل من تناقض بين كوننا حزب سياسي يسعى للوصول إلى السلطة بمعنى امتلاك “قوة الدولة”، وبين كوننا ندافع عن تمكين المجتمع المدني الذي يهدف بالأساس إلى تقليل “قوة الدولة” وزيادة “قوة المجتمع”؟ أليس من الأفضل أن نكون جمعية حقوقية أو مركز دراسات أو مؤسسة تنموية تدافع عن تمكين المجتمع المدني؟
الأجابة ببساطة أننا نعتبر أنفسنا أول من يطرح ذلك التصور عن الدولة الحديثة في الوطن العربي، تلك الدولة التي تجمع بين: الحكومة – المجتمع المدني – رجال الأعمال، في توازن بين الأدوار يعود بالنفع في النهاية على المواطن والمجموع، وهذا التصور لن يتحقق إلا بوجود حزب في الساحة السياسية يمثل آراء وأفكار وتوجهات المجتمع المدني، ويستطيع الوصول إلى السلطة وإنهاء الصراع الدائر بين الحكومة والمجتمع المدني، وبهذا تكون السياسة خادمة للمجتمع لا أداة للسيطرة عليه.
نحن لا نطرح مجرد أفكار ثم ندافع عنها، نحن نمتلك تصورًا للدولة المصرية نسعى لتدشينه على أرض الواقع، وصياغته في حزمة من الإجراءات والقوانين ستمثل برامجنا الانتخابية، نأمل بها في النهاية إلى إعادة بناء مجتمع قوي طالما كانت مصر تتميز به.
ولا أنسى أن أذكر هنا ملمحًا تاريخيًّا يوضح لنا “قوة المجتمع” وماذا كانت تصنع في المجتمع المصري، أنه حينما جاءت الحملة الفرنسية في مصر في 1799 وهرب الحاكم المصري المملوكي، لم يسقط المجتمع، ولم يعاني المصريون من الجوع أو العطش أو توقف الخدمات، وذلك لأن كل تلك الأمور كانت بيد المجتمع منذ البداية يديرها وفق ما يرى، ولهذا لم يتأثر بسقوط “السلطة السياسية”، وانتفض المجتمع بأكمله في وجه نابليون ممثلًا في الروابط الحرفية والتجمعات العائلية وشيوح الحارة والأزهر الشريف حتى رحلت الحملة عن مصر.
ويختلف الأمر جملة وتفصيلًا عندما سيطرت السلطة السياسية على كل شيء، وسلبت من المجتمع قوته منذ عهد محمد علي وأصبح الجميع “عمالًا” للسلطة، حتى جاء الاحتلال البريطاني سنة 1882، فلم يستطع المجتمع المقاومة لأنه سقط بسقوط “السلطة السياسية”، وظل المجتمع تحت وطأة الاحتلال ما يزيد عن 70 عامًّا، وقد عبر محمد علي نفسه عن ذلك في مذكراته، حينما ذكر أنه عمل على بناء الدولة المصرية الحديثة، من خلال سلب قوة المجتمع التي تمثلت حينها في شيوخ الحارة والنقابات والأوقاف الخيرية والأزهر الشريف، ما سلب من المواطن قوته وعزته على حد تعبيره.
ومن المثير للاهتمام في النهاية أن تجد ميزانية الدولة المصرية مع تعاقب الحكومات أغلبها يذهب إلى المرتبات والدعم، في حين أن التعليم والصحة والمرافق والخدمات العامة لو تمكن منها أو بعضها المجتمع المدني لأداها بجودة أعلى وتكلفة أقل، وربما يسعنا الكلام في مقالات أخرى للتحدث عن تفصيلات ذلك، وكيف نرى الدولة في ضوء مثلث القوة “السلطة – رجال الأعمال – المجتمع المدني”.