مخاطر الجمهورية البرلمانية
تزايد الجدل حول مستقبل النظام السياسى فى مصر، ودافع البعض عن الجمهورية البرلمانية واعتبرها الطريق الوحيد لبناء نظام ديمقراطى حقيقى، وتشكك الكثيرون فى النظام الرئاسى واعتبروه مدخلا لإعادة إنتاج النظام الاستبدادى الذى عرفناه على مدار 60 عاما.
والحقيقة أن جزءاً كبيراً من خطاب المدافعين عن النظام البرلمانى هو رد فعل على سلبيات ما عُرف، ظلما وبهتانا، بـ«النظام الرئاسى»، ومن خوف الكثيرين أن يحكمنا مرة أخرى «فرعون آخر» يجثم على صدور الناس 30 عاما ويختطف السلطة والدولة لحسابه الشخصى.
إن مناقشة موضوع الجمهورية البرلمانية يجب ألا يقتصر على الحديث القانونى والسياسى عن طبيعة هذا النظام، ويجب أيضا ألا نقبل الأحكام السخيفة التى تقول إن هناك طبيعة خاصة للشعب المصرى تجعله يؤله رؤساءه وكأنه هو المسؤول عن استبدادهم لطبيعة خاصة فيه لا فى النظم التى حكمته على مدار أكثر من نصف قرن.
ولعل من المهم، قبل مناقشة النظام السياسى الأمثل لمصر، تقديم قراءة صحيحة للحظة التاريخية التى تمر بها البلاد، وكيف أن تبنى النظام البرلمانى فى التوقيت الحالى سيعنى تعميق الفوضى وفراغ السلطة بعد أن استسلم كثير من المسؤولين للمواءمات مع بيروقراطية الدولة سواء الصالح منها أو الطالح.
والحقيقة أن جوهر النظام البرلمانى يقوم على التوازنات بين رئيس الحكومة والأحزاب الممثلة فى البرلمان، بصورة تجعل قدرته على اتخاذ قرارات جريئة خارج إطار الصندوق الروتينى لإدارة الحكم أمرا صعبا، ويصبح تسليمه بالأمر الواقع هو الخيار المتاح حتى تبقى الحكومة وترضى عنه الأحزاب التى شكلتها.
فالوضع الحالى فى مصر هو فى الحقيقة يعانى خطرين، الأول يتمثل فى تردد المسؤولين فى اتخاذ قرارات حاسمة، واشتكى الكثيرون من أيادى الوزراء المرتعشة خوفا من الخطأ، ومن ثم التعرض للمحاكمة والإهانة، وغاب عن الجميع ضرورة التمييز بين المحاكمة السياسية الواجبة فى حال خطأ أى مسؤول وتتمثل فى تغييره أو عدم انتخابه، وبين المحاكمة الجنائية للفاسدين وليس للسياسيين المتعثرين.
وقد خلق هذا الفراغ والتردد فى اتخاذ القرار خطراً ثانياً تمثل فى رغبة بعض المواطنين فى عودة أى سلطة حتى لو كانت غير ديمقراطية تواجه الفراغ الحالى والفلتان الأمنى والفوضى.
والحقيقة أن النظام البرلمانى إذا طُبق على هذا الوضع، فإنه سيعمق كل هذه السلبيات، ولن يكون رئيس الحكومة قادرا على مواجهه أى منها، لأنه لن يستطيع التنفس إلا بإذن من الأحزاب الممثلة فى البرلمان والحكومة، والتى لن يكون من مصلحتها، ونحن فى بداية التحول الديمقراطى، أن تواجه بحسم ملفات الفلتان لأنها قد «تزعل» ناخباً أو تُفقد الحزب مقعداً.
قد يكون النظام البرلمانى مفيدا لمصر فى حال إذا كان مبارك قد ترك فى البلد مؤسسة واحدة تعمل، ولا يحتاج إصلاحها عمليات جراحية لن يكون قادراً على اتخاذها إلا رئيس جمهورية منتخب مباشرة من الشعب.
والحقيقة أن فى بلد نام مثل مصر يعانى مشكلات فقر وبطالة، وشهد فى سنواته الثلاثين الماضية فساداً وانهيارات حقيقية فى الصحة والتعليم والخدمات العامة، نحتاج إلى رئيس لديه برنامج طموح لنهضة هذا البلد ومواجهة مشكلاته، وهو أمر حققه رئيس البرازيل الأسبق لولا دى سيلفا الذى نقل البرازيل خطوات إلى الأمام من خلال برنامجه الرئاسى وليس برنامج حكومة يخضع لتوازنات البرلمان كما يجرى فى العراق.
نعم النظام البرلمانى يصلح فى أوروبا الشرقية التى تسلمت نظمها الديمقراطية دول تعمل وبها مستويات لا بأس بها من التنمية والتقدم، ولم يصلح لبلدان أمريكا اللاتينية التى عرفت انهيارات اقتصادية وأزمات سياسية واجتماعية كبرى.
إن الجمهورية البرلمانية تصلح أيضا فى السويد كما صلحت فى أوروبا الشرقية، ولكنها ليست مناسبة لمصر كما لم تكن مناسبة لكل دول أمريكا اللاتينية ومعها فرنسا والولايات المتحدة وكثير من الدول الأفريقية التى تبنت جميعا النظام الرئاسى، فمصر بحاجة لنظام رئاسى ديمقراطى يتحرر فيه الرئيس من الحسابات اليومية للكتل البرلمانية، ويتفرغ لنهضة هذا الوطن وتكون المدة التى يبقى فيها فى الحكم بمثابة خطوة جبارة نحو التقدم والنهضة.
إن مشكلة النظام البرلمانى فى بلد مثل مصر (معروفة مشكلاته الحزبية)، أنه يجعل هم رئيس الوزراء اليومى أن ينجو من تصويت سحب الثقة فى البرلمان، ومع الوقت تضيع مشاريعه التنموية أمام حرصه على عدم إغضاب الكتلة البرلمانية لهذا الحزب أو ذاك، حتى يستمر فى الحكم.
إن الثقافة السياسية السائدة فى مصر لم ترتح قبل ثورة يوليو لوجود رئيس وزراء منتخب ينازع «جلالة الملك» فى صلاحياته، ومالت دائما إلى الاعتماد على شخص قوى ومحل ثقة وفوق الخلافات الحزبية الضيقة، ويدافع عن هيبة الدولة، وحين فقد الملك هذه الأشياء وفشل رؤساء الوزراء فى ملئها قامت ثورة يوليو وأسس جمال عبدالناصر نظاماً رئاسياً غير ديمقراطى.
وقد أنشأ هذا النظام بيروقراطية عريضة للدولة المصرية تجاوزت الآن ٦ ملايين عامل وموظف فى مؤسسات الدولة المختلفة، ومؤسسة عسكرية قوية ظلت هى الحامى لسلامة هذا الوطن منذ ثورة يوليو وحتى ثورة 25 يناير، ولا أعتقد أن رئيس وزراء ابن توازنات حزبية ضيقة قادر على قيادة هذه المؤسسات وإبعادها عن السياسة.
هل يعتقد البعض أن رئيس حكومة ابن توازنات حزبية ضيقة واستقطابات سياسية غير صحية قادر على مواجهة الفساد داخل مؤسسات الدولة، والذى وصفه رئيس الحكومة الحالى بأنه ثقافة عامة، أو بمعنى آخر فساد مؤسسى، وهل يمكن لرئيس الحكومة المنتخب من أحزاب البرلمان أن يصلح جهاز الشرطة والقضاء والإدارة ويطور الصحة والتعليم دون أن يغضب الموظفين ولا رجال الشرطة والقضاة الشرفاء.
إن رئيس الحكومة فى السياق المصرى لن يستطيع أن يصلح أى شىء، بل إنه سيوائم على كل شىء، وأن المشهد السياسى الحالى يقول إننا فى ظل النظام البرلمانى سنبنى مسرحاً كبيراً نشاهد فيه «توك شو» آخر سيختلف فيه الناس وسيصرخون، وسيشتم السياسيون بعضهم البعض وسيتصارعون على كعكات وهمية، ولكن ستبقى الأمية كما هى وسيبقى التعليم والصحة والإعلام والصناعة والزراعة كما هى محلك سر.
نعم الشعب المصرى يحتاج إلى رئيس لديه صلاحيات، وإذا بقينا خائفين من السلطة على اعتبار أنها يمكن أن تنقلب فى أى لحظة على الشعب وتطبق نظاماً ديكتاتورياً نكون جميعا قد نسينا درس 25 يناير الذى يدل على أنه لن يحكمنا رئيس مدى الحياة ولا رئيس بليد يتعامل مع البلد كأنه عزبة تورث، ولكن الخطر أن نعيش فى مواءمات الجمهورية البرلمانية التى تفرز أشباحاً يسمون وزراء، يكونون سببا فى تسليم السلطة لحكم غير ديمقراطى يعيد الأمن للشعب المصرى بعد فوضى الجمهورية البرلمانية. حذارِ ثم حذارِ من الجمهورية البرلمانية.
الكاتب: عمرو الشوبكي.
المصدر: صحيفة المصري اليوم.