ثورة 25 يناير والقوى المؤثرة في الأحداث
بقلم: هشام عبد العزيز – رئيس حزب الإصلاح والنهضة
لم يكن أحد يتوقع بتاتًا أن تنتقل العدوى التونسية إلى مصر بتلك السرعة التي جرت بها الأحداث منذ ثورة الخامس والعشرين من يناير، ذلك لأن بلدًا بحجم مصر، وما كان يبدو عليها من معالم الاستقرار، وقوة سيطرة النظام الحاكم، إضافة إلى الخبرة التاريخية المصرية ـ كانت تحتاج في نظر الكثيرين إلى زمن ليس بالقصير حتى يصل شعبها إلى النضج الكافي لإحداث مثل هذه الانتفاضة.
لكن يبدو أن جذوة الثورة المختبئة تحت رماد الاستقرار الخادع، كانت تنتظر الشرارة المناسبة لكي تنمو وتستعر، وتشعل في قلوب المصريين نيران الثورة الشعبية التي وصفت بأنها الأولى من نوعها في تاريخ الشعب المصري الممتد عبر آلاف السنين.
فما الذي حدث؟ وكيف حدث؟ وإلى أين ستئول الأمور؟ أسئلة كثيرة تطرح نفسها على كل المصريين، بل على العالم بأسره، تنتظر أجوبة واضحة، لاشك أن الأحداث ستسفر عنها في المستقبل القريب.
ولعل مفتاح الإجابة على كل هذه الأسئلة وغيرها هو أن نرسم خارطة واضحة للقوى المؤثرة في الأحداث على المشهد الراهن، وعلاقاتها التفاعلية بعضها ببعض، بحيث تشكل إطارًا كليًّا للفهم يمكننا من وضع كل جزئية من جزئيات الأحداث في موضعها الصحيح، ويضعها جميعًا في سياق واحد متناغم.
وبالنظر إلى المشهد الكلي لأحداث الثورة المصرية الحالية يمكننا أن نلحظ تأثير القوى التالية على مجريات الأمور:
1- القوى الخارجية:
وتتمثل زعامة هذه القوى بالطبع في الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها القوة الأبرز في العالم، وزعيمة النظام العالمي الجديد، ويتبع موقفها بطبيعة الحال الاتحاد الأوربي، إضافة إلى حليفتها الدائمة إسرائيل.
ولأن طبيعة القوى السياسية أنها تبحث عن مصالحها بالدرجة الأولى؛ وجدنا التحرك الأمريكي سريعًا للغاية تجاه أحداث الثورة في مصر إذا ما قارناه بحالة الثورة التونسية، فالنظام المصري ظل طيلة عهد مبارك هو الحليف الاستراتيجي الأقوى للولايات المتحدة في الشرق الأوسط بعد الابنة المدللة إسرائيل.
وبالإضافة إلى دعم المواقف الأمريكية تجاه جميع قضايا الشرق الأوسط، فإن ضمان أمن إسرائيل يمثل أحد أهم المصالح الاستراتيجية التي يؤمنها النظام المصري للولايات المتحدة.
ويخطئ الكثير في فهم سر ذلك الدعم اللامحدود التي تقدمه الولايات المتحدة لإسرائيل، فيرون ذلك الدعم في ذلك الارتباط الأيديولوجي بين إسرائيل اليهودية وبين الولايات المتحدة المسيحية البروستانتية، باعتبار أن ظهور المسيح المخلص مرتبط بقيام دولة إسرائيل واستقرارها وانتصارها على العرب كما جاء في العهد القديم بزعمهم.
ولاشك أن هذا الجانب مؤثر في السياسة الأمريكية، وقد ازداد تأثيره في عهد المحافظين الجدد في أثناء فترتي ولاية بوش الابن، لكن الذي يفهم النظام الأمريكي بعمق يدرك أن الجانب المصلحي يأتي على قائمة أولويات السياسة الأمريكية، ثم يأتي بعده الجانب القيمي أو الأيديولوجي ما لم يتعارض مع المصالح الأمريكية.
ولذلك فإن قيمة إسرائيل الحقيقية بالنسبة لأمريكا تتمثل في أنها أكبر قاعدة أمريكية في العالم بأسره، وإذا كانت أمريكا قد سمحت لقطر بالحرية المطلقة في التحرك الإعلامي عبر قناة الجزيرة بما قد يتناقض في بعض الأحيان مع بعض المصالح الأمريكية، لقاء وجود قاعدة عسكرية صغيرة لها في قطر؛ فما بالنا بقاعدة ضخمة، تمثل دولة كاملة، بجيش قوي حديث، وقاعدة استخباراتية واسعة، وشعب كامل مؤيد، وكل ذلك مستعد للتحرك في أية لحظة لتحقيق المصالح الأمريكية.
في ضوء ذلك يمكن فهم التصاعد التدريجي في اللهجة الأمريكية الموجهة للنظام المصري، فلقد بدا الأمر مع بداية الأحداث وكأن نظام مبارك مازال قادرًا على الإمساك بزمام الأمور، ومن ثم اكتفت الإدارة الأمريكية بمطالبة الرئيس مبارك بإجراء إصلاحات سياسية للتجاوب مع مطالب الشعب، معربة عن ثقتها في قدرة النظام على استعادة الاستقرار مرة أخرى.
وسرعان ما تغيرت هذه اللهجة حينما تصاعدت الأحداث، وبدا أن نظام مبارك قد فقد السيطرة على الأمور بلا رجعة، فتحولت المطالب الأمريكية إلى المطالبة بالبدء الفوري في الانتقال التدريجي للسلطة، حتى وصلت إلى المطالبة شبه الصريحة بتنحي الرئيس مبارك عن سدة الحكم.
وفي أثناء ذلك حرص البيت الأبيض على الثناء على دور الجيش المصري في حفظ الاستقرار، والتأكيد على عدم استخدام العنف، باعتبار الجيش هو الضمانة الكبري لعدم الدخول في سيناريو الفوضى غير الخلاقة، التي تمثل السيناريو المرعب للولايات المتحدة ومن قبلها إسرائيل.
2- الجيش المصري:
ويبدو الجيش للجميع اللاعب الحاسم في صراع الإرادات القائم بين الشعب الثائر، وبين النظام وعلى رأسه الرئيس مبارك، فهو المؤسسة الوحيدة التي يبدو وأنها لم تفقد شيئًا من تماسكها من مؤسسات الدولة المصرية، إضافة إلى تمتعه بثقة المصريين جميعًا، إذ لم يحدث أن استُخدم الجيش في قمع الشعب، على عكس الشرطة التي تتمتع بكراهية الشارع المصري بأسره.
وقد لوحت الولايات المتحدة باستخدام ورقة المعونة الأمريكية منذ بداية الأحداث، لا سيما مع عدم استجابة الرئيس مبارك للرغبة الأمريكية الواضحة في تنحيه عن سدة الحكم، والشروع الفوري في نقل السلطة عبر مرحلة انتقالية، وذلك لأن قوام الجيش المصري في الحقيقة قائم على المعونات الأمريكية التي تبلغ سنويًّا أكثر من مليار دولار، في صورة معونات عسكرية للجيش المصري، الذي يتمتع بتسليح أمريكي، ولا غنى له عن قطع الغيار السنوية التي تقدمها أمريكا لقطاعاته المختلفة، ومن ثم فإن الولايات المتحدة تعتبر أن لها الحق في توجيه الجيش المصري للعمل وفق مصالحها، والمتمثلة في ضمان أمن إسرائيل والحفاظ على استقرار الأوضاع في الدولة المصرية.
وقد بدا الجيش واضحًا في موقفه من أول وهلة، وهو أنه مع الشرعية الشعبية ومع الشرعية الدستورية كذلك، ولم تفلح محاولات الرئيس مبارك وتمسحه بأنه من أبناء القوات المسلحة، ولا محاولات القوى الشعبية المختلفة في إعلانها توحد الجيش والشعب في استمالة الجيش المصري كل إلى كفته، ولا يبدو في الأفق أي بادرة لتغيير الجيش لموقفه على غرار ما فعل الجيش التونسي بقيادة رئيس أركانه الجنرال رشيد عمار حينما انحاز إلى جانب الشعب، وحسم المعركة لصالح الثورة الشعبية.
3- الشعب المصري:
وهذه من المرات القليلة في تاريخ مصر الحديث التي يبدو الشعب فيها اللاعب الأساسي في معادلة التغيير التي تعاني مصر من مخاضه في هذه الأحداث، فلقد فاجأ الشعب المصري نفسه قبل أن يفاجئ العالم بأسره بتلك الانتفاضة العارمة غير المسبوقة، التي قلبت موازين القوى في منطقة الشرق الأوسط، بل لا نبالغ إذا قلنا أن تداعيات ثورته المباركة سيكون لها تأثيرها وتداعياتها على خارطة العالم بأسره.
ويبدو الشعب المصري هنا في هذه اللحظة التاريخية وقد تنازعه نوعان من القوى:
– قوى التغيير: وتتمثل هذه القوى أولًا في شباب الخامس والعشرين من يناير الذي كان المفجر الرئيسي لهذه الثورة العظيمة، إضافة إلى بعض البؤر القيادية متمثلة في شخصية الدكتور محمد البرادعي وما يتبعها من قوة الجمعية الوطنية للتغيير، وحركة 6 أبريل، وحركة كفاية، بالإضافة بالطبع إلى قوة الإخوان المسلمين والذين يمثلون أكبر القوى السياسية المعارضة في مصر وأكثرها تماسكًا.
وأما أحزاب المعارضة فهي كالعادة لا تمثل أكثر من ديكور يكمل المشهد السياسي في مصر، فلا تتمتع بحضور جماهيري في الشارع المصري، ولا يتوقع منها أكثر من محاولاتها المكشوفة للقفز على حركة الشباب الثائر، ومحاولة التمسح بهم لتحقيق أكبر مكاسب سياسية ممكنة في الأحداث الراهنة.
وتتمثل المطالب الرئيسية لقوى التغيير في إقصاء الرئيس مبارك عن الحكم على الفور، والإسقاط الكامل للنظام المصري، وإعادة صياغة الدستور بما يسمح بالممارسة السياسية الحقيقية لكافة طوائف الشعب، إضافة إلى حل مجلسي الشعب والشورى الفاقدين أصلًا للشرعية بفعل التزوير الفاضح في العملية الانتخابية، مع محاربة الفساد، وتفكيك بنيته الممنهجة عبر التغلغل الشامل للحزب الوطني في مفاصل الدولة إدارة واقتصادًا.
ويبدو الدكتور محمد البرادعي الشخصية الأوفر حظًّا لدى شباب الثورة، ورغم أن الرجل لا يمثل قيادة حقيقية لهم، إلا أنه كان له دور لا ينكر في إحداث حراك سياسي في مصر في الآونة الأخيرة سيما مع بداية مقدمه إلى مصر، وقد التف حوله بالفعل قطاعات كبيرة من الشباب المصري، لكنه لم ينجح في استثمار هذه التجمعات، وتحويلها إلى حركة تغييرية منتظمة، نتيجة عجزه عن مخاطبة الشارع المصري الخطاب الذي يناسبه لفترات طويلة، وارتباطه الدائم بالسفر إلى خارج مصر؛ مما هدم معه صورته كمناضل وطني لا هَمَّ له إلا قضايا وطنه الداخلية.
وهو مع ذلك يحوز دعم الخارج الأمريكي والغربي باعتباره شخصية دولية، كانت تتمتع برضا المجتمع الدولي، ومن ثم بدا الرجل على اتصال دائم بالإدارة الأمريكية، وبدا كذلك واثقًا من تقدم عجلة التغيير الحتمي إلى الأمام.
وأما الإخوان المسلمون فيمكن وصفهم بأنهم اللاعب الأكثر ربحًا في تلك اللعبة برمتها، ورغم أن إحداث هذه الثورة هو شرف لا يمكن لهم ولا لغيرهم من قوى المعارضة أن يدعوه؛ إلا أنهم بما لديهم من كيان تنظيمي واسع متماسك، هم أكثر قوى المعارضة قدرة على الاستفادة من الظرف الراهن بغض النظر عن السيناريو التي ستئول إليه الأمور.
ومن ثم فقد حرص الإخوان على الالتصاق بمطالب الشباب، والرفض غير التام للحوار مع السلطة في ظل وجود الرئيس مبارك، مع مواربة الباب في الوقت نفسه أمام هذا الحوار مع نائب الرئيس عمر سليمان، حتى وصفهم هو بالتردد في قبول الحوار، وآل الأمر بطبيعة الحال إلى قبولهم بالحوار، باعتباره فرصة تاريخية ثمينة لهم كما صرح عمر سليمان بذلك، فأقل ما يحمله ذلك الحوار لهم هو الاعتراف بشرعية الجماعة والسماح لها بممارسة العمل السياسي كحد أدنى، أو المشاركة في السلطة من خلال حكومة ائتلافية قادمة كحد أقصى في تلك المرحلة على الأقل.
– قوى الاستقرار: والتي تتمثلفي بقية طوائف الشعب المصري، والتي تدعم إجمالًا الثورة الشعبية، وتتفق معها في جميع مطالبها بما فيها ضرورة إقصاء مبارك، لكنها لا ترى ضرورة التنحي الفوري للرئيس، وترى أن الثورة قد نجحت بالفعل في تحقيق أكثر أهدافها، وأن الفترة الانتقالية الباقية يحسن إدارتها في ظل الوجود الشكلي للرئيس مبارك في السلطة، حتى يمكن استعادة الاستقرار والخروج من الأزمة الأمنية والاقتصادية الطاحنة التي تعاني منها البلاد.
ويدعم هذه القوى ما أطلق عليه لجنة الحكماء، والمكونة من بعض الشخصيات الوطنية المستقلة، والتي تقترح تفويض الرئيس مبارك جميع صلاحياته لنائبه، ومن ثم يقوم هو بقيادة المرحلة الانتقالية بحيث يكون ذلك عاملًا من عوامل تهدئة ثائرة ميدان التحرير من ناحية، وكذلك يمكن القيام بالإصلاحات الدستورية من ناحية أخرى، ويبدو أن أحزاب المعارضة إضافة إلى الإخوان المسلمين مستعدة للتنازل التدريجي حتى تلحق بهذا المعسكر هي الأخرى.
ويبدو من المضحك هنا المحاولة البائسة التي أجهد الإعلام الرسمي نفسه فيها لإحداث الخلط بين قوى الاستقرار وبين بعض أتباع فلول الحزب الوطني الداعمين لاستمرار الرئيس مبارك في الحكم، ومحاولة تشويه صورة الثورة الشعبية عبر إلصاق التهم المختلفة بها من عمالة للخارج، أو تنفيذ أجندات داخلية لبعض القوى السياسية، أو غير ذلك من الأوصاف التي لم تنطل على أحد، فالحقيقة أن تغيير النظام، وتنحي الرئيس عن الحكم بات مطلبًا شعبيًّا مجمعًا عليه، لكن الاختلاف فقط يبدو في الآلية والتوقيت بين قوى التغيير وقوى الاستقرار.
4- النظام المصري:
وقد يبدو للوهلة الأولى أن النظام المصري يتحرك ككتلة واحدة في تلك الأزمة، لكن النظر المدقق ينبئنا بأنه يمكن تحليله إلى ثلاث قوى مختلفة:
الأولى: نائب الرئيس عمر سليمان، ومن ورائه مؤسسة الأمن القومي المصري:
ويبدو الرجل مستجمعًا للشروط التي كانت ممن الممكن أن تؤهله لاستلام دفة الأمور في مصر في تلك المرحلة الصعبة، فهو ابن للمؤسسة العسكرية، وهو شخصية وطنية تلقى قبولًا عند الولايات المتحدة، كما أنه من الشخصيات القليلة في نظام مبارك التي كان يشهد لها بالنزاهة والكفاءة معًا، ولولا أنه وضع في التوقيت الخاطئ في ظل تولي الرئيس مبارك دفة الأمور، والكراهية الشعبية العارمة له؛ لكان قد لاقى القبول الشعبي المناسب لتوليه السلطة في المرحلة القادمة.
ويتضح من كلام الرجل ومواقفه باقتناعه التام بأن التغيير أمر لا مفر منه، وأن رحيل الرئيس مبارك قد بات أمرًا مقطوعًا بحدوثه، لكنه بطبيعة تكوينه ووظيفته التي كان يشغلها باعتباره المسئول الأول عن الأمن القومي في مصر يفضل الانتقال التدريجي في السلطة، مع ضمان الخروج الآمن للرئيس مبارك.
ويتضح من أحاديثه كذلك شكل الدولة المصرية القادم، متمثلًا في النموذج التركي ما قبل أردوغان، والذي يمثل فيه الجيش ومؤسسة الأمن القومي الحارس الأكبر لدستور البلاد، وتوازن القوى في الدولة، مع إعطاء كل القوى المساحة المناسبة لها في كعكة التأثير والسلطة، وإضفاء الشرعية على الجميع، مع المحافظة على التوازن العلماني الإسلامي في المجتمع، بحيث يبقى النظام المصري العلماديني في النهاية ممسكًا بزمام الأمور، ويظهر ذلك من رفعه لفظ المحظورة عن جماعة الإخوان، ودعوته لها إلى الحوار ضمن كافة القوى السياسية، معربًا عن وجود فرصة ثمينة لهم، وهي كذلك بالفعل.
الثانية: رئيس الوزراء، الفريق أحمد شفيق، ومن ورائه الجهاز الإداري والتنفيذي في الدولة:
وتبدو هذه الشخصية كسابقتها من حيث الأهلية لتولي زمام الأمور، وقدرته على إصلاح الجهاز الإداري التنفيذي للدولة، مع تمتعه بالكاريزما الشعبية وقدرته الواضحة على مخاطبة جميع شرائح الشعب بلغة بسيطة سهلة جذابة في نفس الوقت، ويتفق مع سابقه كذلك في نزاهة سيرته الذاتية، ونجاحه الملموس في مسئولياته السابقة، لكنه أيضًا قوبل بالرفض الشعبي نتيجة لتوليه رئاسة الوزراء في ظل وجود الرئيس مبارك مع ذلك الرفض الشعبي العارم لبقائه في السلطة.
ويبدو لي أن الفريق أحمد شفيق يتفق أيضًا مع نائب الرئيس عمر سليمان في حتمية التغيير، وكذلك في حتمية تنحي الرئيس مبارك عبر انتقال تدريجي آمن للسلطة، لكنه يختلف معه في رؤيته لمرحلة ما بعد مبارك.
فالمتأمل في تصريحاته وحواراته لا سيما بشأن الإخوان المسلمين يمكن أن يستنتج أن رؤيته للمرحلة القادمة تتمثل في تركيا ما بعد أردوغان، وهي وجود دولة مدنية تتمتع فيها جميع القوى السياسية بحقوق المواطنة الكاملة، مع التقيد بشروط اللعبة السياسية، لا سيما عدم استخدام الدين في تحقيق المكاسب السياسية واستقطاب الجماهير للدعم السياسي عبر خلفية دينية.
الثالثة: بقايا الحزب الوطني:
وهي القوة الوحيدة داخل معادلات اللعبة التي لا تريد التغيير، بل تسعى إلى إطالة أمد نظام مبارك أطول فترة ممكنة، وتتمثل هذه القوة في بقايا الحزب الوطني سواء من الحرس القديم أو من كبار رجال الأعمال و”شلة” جمال مبارك، الذين تزعموا حركة التزاوج بين السلطة ورأس المال في عهد وزارة نظيف، بل كانوا أحد الأسباب الرئيسية في حالة الاحتقان السياسي والاجتماعي والاقتصادي التي أوصلت البلاد إلى الحالة الراهنة.
ويكمن خطر هذه الفئة في تشعبها وتغلغلها داخل جميع مفاصل الدولة، وجهازها الإداري، وتجاوزاتها الضخمة في جرائم الفساد الضخم الذي كان يستنزف موارد الدولة المصرية، ومن ثم فإن بقاء نظام الرئيس مبارك يمثل لهم مسألة حياة أو موت، نظرًا للمصالح الضخمة التي تربطهم به من ناحية، وللعقوبات الكبيرة التي تنتظرهم على جرائمهم في حالة السقوط التام لنظام مبارك من ناحية أخرى.
ويبدو أن هذه الفئة قد خرجت تمامًا عن سيطرة الرئيس مبارك في الأحداث الراهنة، ويتمثل ذلك في تلك التحركات البلطجية ـ التي اشتهر بها الحزب الوطني ـ عقب الخطاب الثاني للرئيس مبارك، والتي أضرته كثيرًا بالفعل، فبعد أن نجح ذلك الخطاب العاطفي في تهدئة ثائرة كثير من المصريين، من خلال دغدغة عواطفهم التي اشتهر بها الشعب المصري، إذا بمظاهرات الخيل والبغال والحمير، والسيوف والصنج التي استخدمها بلطجية الوطني تكون وقودًا جديدًا لإشعال الثورة، بل ونزول كثير من المصريين إلى ميدان التحرير لمؤازرة الشباب الثائر، الذي قدم ما يربو على ثلاثمائة قتيل مما نحتسبهم من الشهداء منذ بداية هذه الثورة المباركة.
وقد بدا أن الرئيس مبارك قد تخلى عن هذه الفئة، وفضل أن يأرز إلى حمى المؤسسة العسكرية باعتباره أحد أبنائها، ورمز من رموزها الذي لن تسمح بإهانته، بعد دخول الأوضاع إلى ذلك النفق المظلم، لكن بالنظر إلى طبيعة الرجل وما درج عليه من اقتصاره على الحلول الأمنية في علاج المشكلات المعقدة المتعددة الأبعاد؛ فقد يعاود استخدام هذه الفئة مرة أخرى إذا ما استقرت له الأوضاع.
ولعل الهم الأكبر الذي يشغل الرئيس مبارك في هذه الأيام ينحصر في أمرين:
الأول: الخروج المشرف الذي ينهي تاريخه كقائد سياسي وعسكري لبلاده، يعيش ويموت على أرضها، ومن ثم لم يقبل الرجل بحكم تاريخه وطبيعته العسكرية أن يفر بنفسه وأهله كما فعل زين العابدين صاحب الأصل الأمني لا العسكري.
الثاني: استغلال الفترة الانتقالية في توفير ملاذ آمن له، ويعفيه من أي محاكمات على أي جرائم قد تكون أظهرتها وثائق ويكيليكس كدعمه لبعض الحركات الانفصالية في أفريقيا وغير ذلك، ولا يكون ذلك إلا عبر صفقة واضحة مع جميع الأطراف.
سيناريوهات المستقبل:
من خلال الاستعراض السابق للقوى المؤثرة في الأحداث، فالذي يمكن الجزم به أن محصلة تلك القوى قد شكلت سياجًا عامًّا على الموقف بأكمله، بات قادرًا على منع الأمور من الدخول إلى سيناريو الفوضى العارمة، التي تنهار خلالها الدولة المصرية، ولعل معامل الأمان في هذه الأحداث هو وجود الجيش المصري بتماسكه وقوته، وتعهده بحماية كل من الشرعية الدستورية والشرعية الشعبية، كذلك فمن غير المرجح أن ينحاز الجيش إلى طرف على حساب الآخر.
ولعل الغالب على الظن أن أقرب السيناريوهات أن تئول الأمور في النهاية إلى أحد حالتي النموذج التركي ما قبل أو بعد أردوغان كما سبق، لا سيما في ظل الفرصة المتعاظمة في نجاح التفاوض بين مؤسسة الأمن القومي وعلى رأسها نائب الرئيس عمر سليمان، وبين قوى المعارضة وعلى رأسها الإخوان المسلمين باعتبارها اللاعب الأساسي في فريق المعارضة، وفي ظل النجاح المتوقع للفريق أحمد شفيق في إعادة الاستقرار والكفاءة النسبيتين للجهاز الإداري والتنفيذي للدولة، مع انعكاس ذلك على الاستقرار الاقتصادي والمعيشي للشعب المصري.
وأخيرًا فمهما كان السيناريو الذي ستسفر عنه الأحداث، فإنه لاشك وأن قطار التغيير في مصر بل في المنطقة العربية بأكملها قد انطلق، ولن يستقر إلا في محطته الأخيرة، وأن العالم بعد الخامس والعشرين من يناير 2011 لن يكون كالعالم قبله، فعقارب الساعة لا يمكن أبدًا أن تسير إلى الوراء.