
د/ مصطفى كريم يكتب: أحكام الإدارية العليا … حتى يكون بحق “في الإعادة إفادة”
بقلم د/ مصطفى كريم، مساعد رئيس حزب الإصلاح والنهضة وأمين السياسات العامة
جاءت أحكام المحكمة الإدارية العليا بإعادة الانتخابات في ما يقرب من نصف دوائر المرحلة الأولى لتفتح باباً واسعاً للنقاش: هل نحن أمام عودة إلى المربع الأول بكل ما فيه من تناقضات ومشكلات؟ أم أننا أمام لحظة إصلاح حقيقية يمكن أن تُبنى عليها خطوات جادة تعيد للناس شيئًا من الثقة في العملية الانتخابية؟
رسائل هامة وأخرى غائبة:
قرارات الإعادة في عدد كبير من الدوائر أكدت أن المحكمة راجعت بجدية تناقضات فى محاضر الفرز واللجان العامة، وطعون حول سلامة الإجراءات داخل بعض اللجان، واعتراضات على توجيه الناخبين في نطاقات واسعة .. هذا التدخل أعاد التأكيد أن القضاء ما زال الضامن الأخير حين تضطرب العملية الانتخابية أو يحدث خلل واضح في إجراءاتها … وعلى جانب آخر، فإن الرسائل السياسية تؤكد بأن الإعادة بهذا الحجم تقول شيئًا مهمًا … وهو أن ما جرى في المرحلة الأولى لم يكن عابرًا، وإن حجم الأخطاء كان أكبر من أن يُتجاوز أو يُغض الطرف عنه.
ولكن …
القوائم المغلقة لا تزال خارج نطاق التصحيح، فقد مرّت قوائم المرحلة الأولى دون أي مساس أو مراجعة حقيقية، تلك القوائم ذات الاختيارات البعيدة عن الطموحات الشعبية، والتي لا تعكس بنيتها أي توازن سياسي، ويثير تشكيلها تساؤلات عن معايير الاختيار، وقدرتها على تمثيل المجتمع، باختصار هي قوائم يشعر غالبية المواطنين بأنها “مفروضة” لا “ممثّلة”، هذا واضح من نسب رفض القائمة والأشد وضوحًا من نسب المشاركة المتدنية.
صحيح بأن تشكيلة القوائم ليست من اختصاص المحكمة الإدارية العليا، ولكن التساؤلات لا تزال قائمة: هل الاخطاء التي وقع بها مرشحو الفردي تختلف عن تلك التي قام بها مرشحو القائمة؟! نفس الحملات .. نفس الممارسات .. نفس شبكات المال السياسي والتربيطات الانتخابية، وهنا ظهرت المفارقة:
الدوائر الفردية خضعت لمراجعة واسعة … أما القوائم — التي تحسم 50% من مقاعد المجلس — فقد عبرت دون مراجعة، وكأنها خارج الإطار الزمني، أو خارج الإطار السياسي نفسه.
إذًا نحن في المربع الأول ولكن على حافة النهاية من ذلك المربع، وعلى استعداد مبدئي للإصلاح يعززه “فيتو” رئاسي، وكذلك “فيتو” شعبي ربما يغير بعض من معادلات الدوائر المعادة لصالح المرشحين الأنسب، خاصة وأننا أمام جانب آخر قد يشير — إن أُحسِن التعامل معه — إلى بداية تصحيح مسار وليس مجرد إعادة إنتاج للمشهد؛ فالإعادة بهذا الحجم ليست تفصيلاً صغيرًا … بل اعتراف بأن العملية الانتخابية تحتاج ضبطًا كاملاً وليس رتوشًا تجميلية خفيفة.
حتى يكون بحق في الإعادة إفادة
وحتى تُثمر الإعادة الحالية معالجة حقيقية، لا بد من رؤية سياسية واضحة تستند إلى أربع خطوات:
- مراجعة جذرية لنظام القوائم المغلقة في الاستحقاقات القادمة (بداية من المحليات القادمة) من خلال وضع قواعد موضوعية للترشيح، وإعلان معايير الاختيار بشفافية، وإتاحة مشاركة أوسع للكوادر الحقيقية، لا تلك التي يتم تجميعها دون رؤية، دراسة المزج بين القوائم النسبية والمغلقة والفردي، وهو مطلب باتت التجربة ـ وليس التنظير ـ هو ما يؤكد بأنه أحد ضمانات انتخابات ممثلة.
- ضبط إجراءات الفردي قبل يوم التصويت: الإعادة ستفقد الجزء الأكبر من بريقها وتتحول إلى تكرار ممل، إن كان نفس السيناريو … حشد، توجيه، ومال سياسي، ومن هنا فإن الحل يكمن في تحديد نطاقات مراقبة واضحة أمام اللجان، استخدام تكنولوجيا بسيطة ـ دون ميزانيات ضخمة ودون لوجستيات مرهقة ـ توثق محيط اللجنة وتمنع الجدل، مع توفير رقابة محايدة داخل اللجان وخارجها.
- فتح المجال أمام معارضة حقيقية: فلا مستقبل لانتخابات بلا منافسة، ولا منافسة بلا معارضة تمتلك برامج، كوادر، رؤية، ومساحة للعمل، الناس فقدت الثقة عندما اختلط خطاب المعارضة بالمال السياسي، ولا بد من فتح المجال للمعارضة الجادة، التي تقدم برامج بشكل مستقل وليست معارضة “ديكور” ضمن تحالف أو تربيطات تضر بالمشهد الانتخابي وباستقرار الوطن وسلامته.
- الإعلان السريع عن تقرير شامل عما حدث يصدر عن الهيئة الوطنية للانتخابات، ما الذي سوف يتم من إجراءات لمنع تكرار ما حدث؟ وما هي الإجراءات الواجب الالتزام بها؟ والعقوبات التي ستقع على المخالفين؟ والآليات لضبط ومراقبة ذلك؟ والقنوات الواضحة والشفافة والعاجلة لرفع شكاوى المتضررين؟ هذا التقرير ليس رفاهية ولا ينبغي أن يكون “شكليًا بروتوكوليًا” يفتقد إلى “الديناميكة والمصارحة” … بل هو أداة لإعادة بناء الثقة.
وختامًا …
فإن النية مما سبق ليس انتقاد الوضع الحالي دون حلول ولكن هو السعي الدائم لمشهد انتخابي يستحقه الناس … إعادة الانتخابات ليست نهاية … بل بداية جديدة … بداية تفرض على الجميع — الدولة والأحزاب والمجتمع — أن يفهموا أن الثقة لا تُمنح، بل تُبنى عبر مسار واضح وشفاف … السؤال ليس: هل نعود إلى المربع الأول؟ بل: هل نملك الشجاعة لنبدأ من المربع الصحيح؟ الإرادة موجودة إذا توفرت الرغبة في الإصلاح، والفرصة ما زالت قائمة … لكن الوقت ليس مفتوحًا، وعين الناس لا تُغلق.